[size=16]قال الله تبارك وتعالى في آية الوضوء:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾(المائدة: 6)، فأتى سبحانه بفعل المسح متعدِّيًا إلى الرؤوس بالباء هكذا:﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾، وكان وجه الكلام أن يقال: وامسحوا رؤوسكم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما سرُّ إدخال هذه الباء على الرؤوس، وما مدلولها ؟ وهل وجودها وعدمه سواء ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه:
أولاً- الفعل { مسح } مشتق- لغة- من المسح، وهو إمرار الشيء على الشيء بسطًا بأداة أو نحوها، والأصل فيه أن يعدَّى إلى المفعول بنفسه؛ كقولك: مسح بيده رأس اليتيم؛ ومنه قول الشاعر:
مسحت بأطراف الأَكُفِّ مدامعي ** فصار خِضابًا بالأَكُفِّ كما ترى
وقد يعدَّى إلى المفعول بالباء؛ كقولك: مسح برأس اليتيم؛ قول الشاعر لعلي بن زياد:
يا بن الذي مسح النبي برأسه ** ودعا له بالخير عند المسجد
وعلى هذا ورد قوله تعالى:﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾(ص: 33). قال ابن عباس والزهري:« مسح سليمان صلى الله عليه وسلم بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف؛ بل بيده تكريمًا لها ومحبة ». وهذا هو المرجح في تفسير هذه الآية، والله تعالى أعلم.
وأما المسح- في تعارف الشرع- فهو إمرار اليد المبتلة على الأعضاء لإزالة الأثر عنها، والله تعالى أمر في الوضوء بالمسح بالرؤوس والأرجل إلى الكعبين بالماء، فقال تعالى:﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾، وأمر في التيمم بالمسح بالوجه والأيدي بالصعيد، فقال سبحانه:﴿ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾.
واتفق العلماء على وجوب استيعاب مسح الوجوه والأيدي في التيمم؛ ولكنهم اختلفوا في القدر الواجب مسحه من الرأس في الوضوء. قال أبو حيان في البحر المحيط:« فروي عن ابن عمر: أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع: أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن إبراهيم والشعبي: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها. وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب مالك: وجوب التعميم. والمشهور من مذهب الشافعي: وجوب أدنى ما يطلق عليه اسم المسح، ومشهور مذهب أبي حنيفة والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع ».
وقال الزمخشريُّ:« أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي: أنه مسح على ناصيته، وقدر الناصية بربع الرأس ».
وهذا الخلاف بينهم مبني على اختلافهم في مدلول الباء الداخلة على الرؤوس، فذهب فريق منهم إلى أنها زائدة مؤكدة، والمعنى: امسحوا رؤوسكم. وذهب فريق آخر إلى أنها للتبعيض، والمعنى: امسحوا بعض رؤوسكم. وذهب فريق ثالث إلى أنها للإلصاق، والمعنى: ألصقوا المسح برؤوسكم.
فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله أخذًا بالاحتياط، وحجته قوله تعالى في التيمم:﴿ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾، فكما لا يجزىء في التيمم مسح بعض الوجه اتفاقًا، فكذلك لا يجزىء في الوضوء مسح بعض الرأس.
ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعض الرأس أخذًا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث مسح على ناصيته؛ كما في حديث المغيرة بن شُعْبَةَ:« أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه »، وقدروا الناصية بربع الرأس.
ومن رآها للإلصاق لم يوجب التعميم؛ بل رأى أنه يكفي مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس أخذًا باليقين؛ فإن قولك: مسحت برأس اليتيم، يقتضي مسح جزء من الرأس، ومسح الرأس كله. قال الزمخشري:« المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسحُ بعضه ومستوفيُه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه ».
ثانيًا- وكون الباء زائدة هو ظاهر مذهب سيبويه، فإنه حكى:« خشنت صدره وبصدره. ومسحت رأسه وبرأسه »، والمعنى واحد. وقال الفرَّاءُ:« تقول العرب: خذ الخطام وخذ بالخطام. وخذ برأسه ورأسه ». وعليه يكون دخول الباء، وخروجها سواء، وتعليل البصريين لزيادتها بأنها للتوكيد ليس بشيء. وعلل بعضهم لزيادتها بأنها إنما زيدت؛ لتفيد معنى بديعًا، وهو أن الغسل- لغة- يقتضي مغسولاً به، والمسح- لغة- لا يقتضي ممسوحًا به. فلو قال:{ وامسحوا رؤوسكم }، لأجزأ المسح باليد إمرارًا من غير شيء على الرأس، فدخلت الباء؛ لتفيد ممسوحًا به، وهو الماء؛ فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء.
وهذا مردود بقوله تعالى:﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾(ص: 33)؛ فإن الباء دخلت على السوق، ولم تفد ممسوحًا به. ولو كان المسح بدخول الباء يقتضي ممسوحًا به، لاقتضاه هنا.
وأما كونها للتبعيض فينكره أكثر النحاة، حتى قال العُكْبُريُّ:« وقال من لا خبرة له بالعربية: الباء في مثل هذا للتبعيض، وليس بشيء يعرفه أهل العلم ». ومنهم من نسبه إلى أصحاب الشافعي. قال ابن جني:« وأما ما يحكيه أصحاب الشافعي من أن الباء للتبعيض فشيء لا يعرفه أصحابنا، ولا ورد به ثَبِتٌ ». ومنهم من نقل عن ابن هشام أنه نسبه إلى الشافعي في شرح قصيدة كعب بن زهير، والذي حققه السيوطي أن الباء عند الشافعي للإلصاق، وأنكر أن تكون عنده للتبعيض، وقال:« هي للإلصاق. أي: ألصقوا المسح برؤوسكم، وهو يصدق ببعض شعره، وبه تمسك الشافعي »، ونقل عبارة ( الأم )، وقال في آخرها:« وليس فيه أن الباء للتبعيض، كما ظن كثير من الناس ».
وأما ابن هشام فقد ذكر في مغني اللبيب من معاني الباء: التبعيض، وحكاه عن الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك والكوفيين، ثم قال: « قيل: ومنه:﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ »، ثم عقَّب عليه بقوله:« والظاهر أن الباء للإلصاق، أو للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا وقلبًا؛ فإن { مسح } يتعدى إلى المُزَال عنه بنفسه، والى المُزيل بالباء، والأصل: امسحوا رؤوسكم بالماء، فقلب معمول: مسح ».
وعلى هذا يكون في الباء قولاً رابعًا، وهو كونها للاستعانة، وهي التي تدخل على آلة الفعل؛ كما في قولك:{ مسحت بالمنديل يدي }. وحكى الرازي عن الشافعي:« أنه لو قيل: مسحت المنديل، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية. أما لو قال: مسحت يدي بالمنديل، فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل ». وحملوا على ذلك قول الله تعالى:﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾، فقالوا: إنه يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء الرأس. وعليه يكون الرأس آلة لمسح تلك اليدين، ويكون الفَرْضُ- إذ ذاك- ليس مسح الرأس؛ بل الفَرْضُ مسح اليدين بالرأس، ويكون في اليدين فرضان: أحدهما: غسل جميعهما إلى المرافق، والآخر: مسح بللهما بالرأس. ويلزم عليه أن يكون المأمور به هو مسح الماء بجزء من الرأس المقدَّر بالربع؛ كما في قول من جعل الباء للتبعيض.
ثالثًا- وتحقيق القول في هذه المسألة الخلافية: أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه قائلاً: امسح رأسك، كان المأمور ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مُسَمَّى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس. وهكذا سائر الأفعال المتعدية؛ نحو: اضرب زيدًا، أو اطعنه، أو ارجمه، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب، أو الطعن، أو الرجم على عضو من أعضائه. ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضاربًا، أو راجمًا، أو طاعنًا إلا بإيقاع الضرب والرجم والطعن على كل جزء من أجزاء زيد.
فإذا قلت: امسح برأس زيد، فقد دلَّت الباء على معنى زائد لم يكن موجودَا قبل دخول الباء. ومن هنا لا يجوز أن يقال: إن قولك: امسح رأس زيد، وقولك: امسح برأسه، بمعنى واحد، وإن الباء في الثاني زائدة، أو للتبعيض، أو للآلة؛ لأن القول بالزيادة فضل من القول زائد لا يلتفت إليه، وأما القول بالتبعيض فمفهوم من الكلام قبل دخول الباء، وأما القول بأن الباء للآلة فلا يصح؛ لأنه لا يجوز أن يجعل الرأس آلة للمسح. أو أن ينزَّل- على حد قول الزرقاني- منزلة الآلة، خلافًا لما يقتضيه ظاهر اللفظ، فيفيد- كما قال- وجوب مسح ربع الرأس.
فإذا عرفت هذا، تبين لك أن الباء في قوله تعالى:﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ ليست بزائدة، أو للتبعيض، أو للآلة؛ وإنما هي للإلصاق، جيء بها لتدل على إلصاق المسح بالرأس، وإلصاق المسح بالرأس يقتضي مسح جميعه، خلافًا لمن قال: إنها تدل على مسح بعضه؛ فليس من يمسح بعض الرأس يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه؛ إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه، وقد بينت السنة أن الرأس يمسح مرة واحدة بكيفية معينة؛ وذلك بأن يبدأ من مقدم الرأس بيديه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ مرة واحدة.
والدليل على وجوب تعميم مسح الرأس في الوضوء قوله تعالى في التيمم:﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ﴾، ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقًا. فلما لم يجز الاقتصار في التيمم على مسح بعض الوجه دون بعض، كذلك لا يجوز الاقتصار في الوضوء على مسح بعض الرأس دون بعض.. والله تعالى أعلم بمراده وأسرار بيانه
</TD></TR></TABLE>